Saturday, May 28, 2005

إنتظار



إهداء
إلى د/ محمد إسماعيل و د/عاطف تادرس و د/ منى محروس ، وكل من وهبني السهاد قبل امتحاناته


أغمض عيني .. أفتحهما ..
المروحة المسرعة لا تكف عن ذبح الهواء فوق رأسي بقسوة لا مثيل لها ، و أنا مسجاً على السرير ووجهي إلى طلاء السقف المشقق أنتظر هبوط مروحة السقف /المقصلة إلى عنقي ، الأمر لن يكون مؤلماً ولن يكون بهذه البشاعة ، كل ما سيحدث أن العمود المعدني الذي يثبت المروحة المتسخة إلى السقف سيأخذ في النمو و الاستطالة كأي كائن آخر ، حتى تصل المروحة إلى عنقي وتجتزه تماماً بضربة واحدة .. ترى هل سأتألم أكثر لأن (ريّش) المروحة الثلاثة مدججة بالأتربة و الأوساخ ؟
أغمض عيني قليلاً .. الأمر سيتم كالآتي : سأشعر مثلاً ببعض الألم ، ليس ألماً من النوع القاتل ، يقولون أن الخروف لا يشعر بالألم وقت الذبح ، و أنا أميل الآن إلى تصديق ذلك ، لماذا ينتفض الخروف إذن بعد ذبحه ؟ لأنه أحمق متشبث بالحياة - بلا سبب - ، لأنه يريد أن يستمر إلى الأبد في التهام البرسيم ومناطحة باقي الذكور ليستحوز هو - هو وحده - على تلك النعجة ذات الفراء الناعم و العينين الكحيلتين كعيني إنسانة ! أما أنا فلن أكون بحمق الخروف و أنتفض عندما تأتي إلي هذه الفرصة الذهبية (للانتقال) ..
ربما سأشعر أيضاً حينها - قبل أن أغيب عن الوعي - بدمي المتقد وهو يسيل في كل مكان ، ربما ساعدت أكوام الأتربة على المروحة في أن تهدئ النزيف قليلا ، هذا احتمال قائم ، ولذلك يجب أن أتذكر أن أنظف المروحة جيدا لتكون جاهزة للاستخدام دائماً ..
لا بد أن المروحة الآن ستكون سرعتها قد بلغت حداً أسطورياً ، كأنما تريد أن تبعد عنها أي قطرة دم أو أي اتهام بالقتل قد يوجه إليها ، ربما سأشعر حينها ببعض الانتعاش من الهواء البارد الذي يلفح وجهي و يحمل رائحة دمي ..
أخبركم بسر صغير ؟ أعشق هذه المروحة بجنون على الرغم من كل شئ ..!
و الآن أغمض عيني من جديد ، وحين أفتحهما تكون المروحة قد عادت إلى مكانها وتجمعت كل قطرة دم من التى تشبعت بها الغرفة وعادت إلى شراييني و أوردتي التي التحمت من جديد بدورها ..
سرعة المروحة الآن هادئة تماماً ، تمارس القتل اللطيف مع جزيئات الهواء المتناثرة (أتراه قتل الرحمة؟) ، يمكنني أن أحصي عدد دوراتها دون أن أخطئ في العد ، 24 ..57 ..132 .. أكثر من ذلك ؟ لا أظن .. ليس لي بأي حال من الأحوال أكثر من 132 صديق هم من كنت سأدعوهم إلى حفل خطبتي الذي حلمت به طويلاً ، سيكون فستانها محتشماً ، وردياً محتشماً ، و سأنيب أمي عني في تقليدها الشبكة و لثمها بين عينيها ، وسيكون الرجال في مكان و النساء في مكان آخر منعزل ، 132 .. ترى كم منهم سيحضر جنازتي ؟ ومن منهم سيتطوع بالانهيار عند قبري إذا ما انزاح الكفن لسبب أو لآخر عن رأسي المفصول ؟ و ترى هل سيكون الرجال منعزلون عن النساء في (حفل) عزائي ؟
1056 .. 1341 .. 1767 ..
لن يبلغ أبداً عدد من أعرفهم أو أتعامل معهم هذا الحد أبداً ، ربما لو نشر الخبر في إحدى صفحات الحوادث مثلاً لوجدت الآلاف يمصمصون شفاههم رأفة بشبابي المهدر بين أنياب المروحة ‍‍‍‍‍‍!
هل سيتطوع أحدهم بنشر نعي لي في أحد الجرائد ؟ ليس هذا تقليداً شائعاً في عائلتنا ، ولكنه أيضاً ليس من الشائع عندنا أن تجتز مروحة السقف رؤوس شباب العائلة ، إذن فربما تطوع أحدهم بنشر النعي ، بل وربما أرفقوا معها صورتي ببذلتي الرمادية الوحيدة التي كنت قد أعددتها خصيصاً لحفل (تخرجي) ، ربما قد كنت محقاً عندما أخذت هذه الصورة قبل حفل التخرج ، و ربما أصبت أيضاً في عندما انتقيت ربطة العنق السوداء تلك لأجعلها أنشوطة في عنقي رغم تشاؤم الجميع منها ..
أسرتي ، أبي ، (أمي) ، أخي ، أغمض عيني و لا أخاول أن أتخيلهم يروني أبداً في هذا الموقف ..
......... 754 عدد طلاب دفعتي ..
ستعلق ورقة طبعت في مكتب كمبيوتر فلاور بجوار لوحة النتيجة تماماً :
توفي إلى رحمة الله تعالى
..............
ربما سيأخذهم الفضول لمعرفة نتيجتي التي لم يسعفني الوقت لمعرفتها ، ترى من سيبك علي منهم ؟ هل ستبكي علي تلك الفتاة التي تجلس دائماً في الصف الثالث إلى اليسار وتبتسم باستمرارلتظهر غمازتيها الغائرتين ؟ هل تعرفني أصلاً ؟؟
وهل ستترحم علي حنان وهي تكتب نعيي في محل فلاور و تذكر أنني كنت أطبع عندها كل أبحاثي ؟
بالله هل سيعبأ بي أحد أو يذكرني مخلوق ؟؟؟؟
أغمض عيني .. أفتحهما ..
كان هناك مسلسل كرتوني شاهدت بعض حلقات منه أيام طفولتي الأولى ، كان اسمه (مغامرات مورتون و نيلز) أو شئ كهذا ، نيلز لسبب ما قد أصبح قزماً بطول عقلة الإصبع ،و يجوب العالم على ظهر صديقه الحميم مورتون وهو أوزة بيضاء كبيرة ، وهما يحلقان معاً وسط سرب من البط البري الذي يرتحل من مكان إلى مكان ، أما ما أذكره عن آخر حلقة فهو قليل و لا يزيد عن ان نيلز قد عاد إلى بيته أخيراً على متن مورتون ، يدخل نيلز القزم إلى غرفته بينما ينتظره مورتون خارج البيت ، ويعود نيلز إلى حجمه الطبيعي بعد أن تحل التعويذة أو اللعنة التي بسببها تقلص حجمه ، وكان شرط حل اللعنة (كما عرفنا في النهاية) هو أن تذبح أوزة بيضاء كبيرة .............................................
أغمض عيني .. أفتحهما والمروحة المنتظرة لا تكف عن الأزيز ..
ستدخل عليك الصيدلية وهي تقدم قدماً و تأخر الثانية ، يجب عليك أن تكون لماحاً وتهم ما تريده بالضبط ، أسئلتك يجب أن تكون محددة و صريحة : ما لون الإفرازات ، ما شكلها بالضبط ، هل تشبه قطع الجبن المفتتة أم لا ؟ هل رائحتها كرائحة السمك ؟ الدواء ؟ صبغة الجنتيانا البنفسجية علاج فعال ، و إياك ان تستعملها ! لماذا ؟ صوته القاطع يهدر : "هتصبغ ال Underwear بتاعها و بتاع جوزها كمان" ..
لم ينجح أحد في هذه المادة العام الماضي إلا بدرجات الرأفة ..
أغمض عيني ، أنجح في أن أبقيهما مغمضتان طويلاً هذه المرة ، المروحة تلفظ أنفاسها وتتوقف الآن تماماً ..
1 .. 1 .. 1 .. 1 .. 1
هي/هي/هي/هي/هي
اتراها ستعيش بعدي ؟ أتراها ستتذكر عيني عندما ترى عيني الخروف العسليتين تنظران إلى الأبدية عشية عيد الأضحى ؟ أتراها ستتذكرني وهي تنظر إلى الرأس المفصول ؟ أستهش الذباب عن وجهه / وجهي المربد ؟ أستشارك العائلة في وليمة التهامي ؟ ستتذكرني ، أنا أثق في ذلك كما أثق في مروحتي التي ستنهي كل شئ ، ستظل تذكرني و ستظل تقرأ لي سورة يس مطلع كل نهار ، وستظل تحتضن دميتها ذات الشعر الأسود الغزير وتناجيها و تبكي ، أ ستروى لها عندما تكبر الدمية / ابنتنا أن أباها كان يحبها كثيراً ؟؟
كانت حين تبكي لا تجد لها مثواً إلا حضني الدافئ لتذوي فيه كشمعة تسيل ، أتشمم أريج شعرها بشفتي المشققتين ، تشتعل ، تخبو ، وتتشكل الشمعة من جديد في قالبي أنا ..
أستجد لها قالباً يشكلها من جديد بعدي ؟؟؟
ترى هل من الأوفق أن أمد يدي الآن - قبل أن يصل نصل المروحة المتسخ إلى عنقي - و أفتح درج مكتبي المجاور ؟ ترى هل أجعل دمي - ذلك الذي يترنم باسمها- يصل إلى أوراق هداياها الملونة النائمة ببراءة في حضن درج مكتبي العجوز ؟
أستقدر حقاً يا دمي أن تصل إلى إهداءاتها ، أستجرؤ على طمس ما كتبته لي بخطها الطفولي :(إلى الذي لم يفشل أبداً في استفزازي) ..
أتراك يا أوراق هداياها عطشى إلى دمي ؟ و أتراك يا دمي ستحيي زهورها التي اختارتها لي (لي وحدي) على الأوراق الملونة بلونها ، و أتراني سأتمكن من أن أشم العبير ، عبير زهورنا من (مرقدي) هناك وسط الرموس ؟؟
أحاول أن أغمض عيني أكبر وقت ممكن ، تفتحان على الرغم مني ، أستصدقونني إذا أقسمت لكم أن القائم مازال ينمو ، و أن وشيش المروحة صار هديراً ، و أن رائحة التراب تزكم أنفي الآن أكثر و أكثر ؟؟
إذن لأمد يدي ولأفتح درج المكتب ....