Saturday, October 01, 2005

الفرافرة .. حين فررت من نفسي إلى نفسي



كان مخاضها ومخاضي متعسرين ، ربما كان وضعي بداخلها غير طبيعي ، أو ربما أنني قد تضخمت في رحمها أكثر من اللازم ، حتى تعذر علي أن أمر طاقة النور التي أراها تقترب حيناً وتبتعد أحياناً ، و أجاهد مع ذلك لأن أصل إليها ..
حتى هي ، أمي ، كانت بدافع الحب أو الكره تحاول أن تلفظني عنها ، أسئمت مكوثي داخلها أم اشتاقت لرؤياي ؟
يتقلص الرحم ، يضمني كقبر فتختلف ضلوعي ، يشفق عليّ .. ينبسط ، أشهق محاولاً أن أتنفس ، ينقبض من جديد حتى إذا ماكدت أهلك تركني الرحم لأعيش إلىحين ..
أعجبتك لعبة الطلق يا أمي ؟ إيه يا أماه .. مادمت تلعنيني الآن هكذا فلم لم تتناولي الأقراص وتقتلي نطفتي فيكي من البداية ؟
أعرف أن الطبيب يتعجلك لتلفظيني عنك ، و أعرف أنه سيرجح حياتك على حياتي رغم أني سر حياتك ، و أرى من مكمني فيك أداته تلك ، مثل الجفت الجراحي الذي يسحب به الجنين أثناء الولادات المتعسرة ، كمقص عملاق ، ولكنه بمسمارين صغيرين ، سيدعي أنه يدغدغني و يتسلل بملقطه الصدئ حتى يكون رأسي بين طرفيه ، ولأن ذراع القوة طويل فلن يكلفه الأمر غير ضغطة بسيطة ليتصافح المسماران في رأسي ..
حينها ستزفرين يا أمي ، وسيبتسم لك الطبيب بتشف وهو يسحب بملقطه الجيفة التي صيرني إليها ..
إيه أيها الطبيب ، راسي مهشم ومخي يسيل من ثقبي مهمازيك ، ولكني رأيت نظرتك على أمي ووعيتها جيداً ..
تقهقه .. لا تعبا بدمي و قيحي والعرق وسوائل الميلاد وتعزف بقيثارتك لتغوي أمي ؟
تنهضها وتتأبط ذراعها الذي لم يمسه أحد منذ أن استودعتها نطفتي لأولد منها ومني و أفتديها من خطيئتها و خطيئتي ..
تخطوان على أحشائي ، تحفرين أخدوداً بكعب نعلك في موضعك مني ، القلب تماماً ، أهنت عليك لتلك الدرجة حتى لا تستري عريي وتؤثرين أن يسترني طبيبك هذا بين أنيابه و أحشائه ؟
يشخب صدرك برحيق الحياة و أنا ظمآن منذ اللقاح الأول و لا ترويني ؟
لماذا مازلت أشعر و أنا ملقاً وحدي بالرحم يمارس الطلق ويهصر جوانبي .. إلى أي دنيا تريدي أن تلفظيني يا دنيتي ؟
أن تكون يتيم الأم أمر قد تعتاد عليه مع الوقت ممنياً نفسك بلقياها عند الله ، أما أن تكون يتيم الأم و أمك أمام عينيك ، أن ترى إيزيسك تئد حوريس و وتشارك ست ابتهاجه بتقطيعك إرباً ، فهو دولاب المسامير المستعر الذي يطبق عليّ كقبر كافر ..
حسناً يا أمي و حبيبتي و ابنتي ..
سأبتعد إلى أقصى نقطة يمكنني الارتحال إليها ، إلى أكثر نقطة لا أعرف عنها شيئاً ، لا أعرف عنها إلا اسمها و إلا أنها بعيدة عنك ..
الفرافرة ..
في موقف الترجمان عندما سألني موظف التذاكر لماذا الفرافرة بالذات؟كنت سألعن أباه و عشيرته كلها لفضوله ، ألا يرى حقاً أخدودها في قلبي ؟
- الفرافرة ده اللي اتصور فيها شمس الزناتي ..
وقهقه وحده ..
لم أجد ما يقلني إلى الفرافرة من الترجمان ، الأوتوبيس القادم موعده بعد غد ، و الأغبياء لا يعرفون أنني لم أعد أقوى أن أمكث في مملكة ست هذه أكثر من ذلك ، أريد أن أطوف الأقاليم و أجمع أشلائي ، مهمتك يا إيزيس التي تنصلت منها ..
القاهرة قاتلتي الليلة ..
إذن فإلى أي مكان سيرحل إليه الأوتوبيس الآن ..
واحة الخارجة ..
على بعد 700 كم من القاهرة ، وتقريباً على خط واحد مع الأقصر ، ولا شئ آخر تراه هناك، ننتقل بين قراها التي تحمل أسماء عواصم ومدن عربية : صنعاء .. جدة .. عمان ونحن مكدسون في صندوق سيارة كعربات الشرطة ، ليست بقرية و لا مدينة و لا واحة ، مجرد طريق طويل مرصوف بلا بداية و لانهاية ، مازلت يا ست تلاحقني بترانيمك وقيانك ، ضعف سلطانك ولكنك ما زلت تلاحقني حاملاً فأسك الحاد لتمزق أشلاء أشلائي ..
كان متاعي ثلاثة كتب لها معزتها في قلبي ، روايتان لكويلو ورواية لماركيز ، لم أقرأ حرفاً في أي منهم ، واكتفيت بان أضم كتاب ماركيز إلى صدري و أتشمم عطر شعر أمي بين صفحاته ، تمطين شفتيك عتاباً و أدير وجهي عنك ولا أزحزحك عن صدري ..
أمي .. لم تتوقف روحي عن اللهج باسمك لحظة واحدة ..
من لاواحة الخارجة إلا لاواحة الداخلة ، رحلة قصيرة هذه المرّة ، 300 كم وحسب ، أجرب أحدكم أن يقضي 3 ليال لا ينام فيها إلا مستنداً على ظهر الكرسي الذي يليه في حافلة تهتز بشبق مستمر ؟
أجرب أحدكم أن يحيا كالهيبز ، يرتحل وهو لا يعرف ماذا سيرى في رحلته أو أين سينام أو حتى كيف سيرجع ثانية ، أن يسافر كأنما خلق ليرتحل ، كسرب أوز بري أو سالمون ، كمجذوب يهيم إلى نور الله ، وكنت أنا مجذوباً إلى لقياها هناك ..
أقف في وسط الدائرة ، في النواة تماماً مدارات الإلكترونات تتعامد تتوازى تتشابك تتشارك في أن تصفعني وتهرب ، لن أعرف أبداً عدد من صفعني ، هم كسلاسل الشهاب لا تعرف لها بداية و لا نهاية ، أيا نيوتروني المتعادل ، أبهرك بريق سياط الإلكترونات السالبة وغفلت عن موجبك القادر وحده على بث الروح في أعطافك التي سئمت سجن التعادل ..
أمي .. أنا في الداخلة ، قطعت 1000 كم لأستطيع أن أهاتفك ، فاصفحي عني وهبي لي ملاذاً أراق فيه ورفرفي على مأواك بين ضلوعي ..
سحقاً لغيرة الطفل الحمقاء ، سحقاُ لعقله الذي سحق بين مطرقة الطبيب و سندانه ، أو تستطيع أمك يا أبله أن تلقم ثديها لغير ابن رحمها ، أن تروي شفتاها المكتنزتان شفاهاً عطشى غير شفتي .. وي أتقدر شهرزادي أن يهدهدها ويهمس لها بالحكايات غيري ؟
كان علي أن أنتظر في الداخلة بضع ساعات إلى أن يحين موعد حافلة الفرافرة ..
وبضع مئات أخرى من الكيلومترات ..
وعندما أعلن السائق بلا اكتراث أنا قد وصلنا إلى الفرافرة لم أجد حتى يافطة واحدة تدل على ذلك ، ترجلت كابن فطومة حين بلغ نهاية رحلته ، إذن فهذه هي الفرافرة ، طريق نصف ممهد تتناثر عن يمينه ويساره بعض البيوت و المحال البائسة ، ولا شئ آخر ..
مركز للشباب بلا شباب ، نزل بلا نجوم ، ومتحف خاص لفنان انعزل عن الحياة في مرسمه ..
وفي مركز الشباب عرض علي أحدهم أن يأخذني إلى الصحراء في سيارته القديمة رباعية الدفع ..
تجأر السيارة أولاً قبل أن تهتز ، ما إن تخطو حتى يختفي الناس على الفور ، كيلومترات عديدة لا ترى فيها أثراً لسيارة مارّة ، الآن يهدئ من سرعته ، ينحرف إلى اليمين ، يترك الطريق الأسفلتي ويفض بكارة الصحراء ، بعد احتضار قصير يغدو هاتفي المحمول بلا فائدة بعد أن فارقته مؤقتاً روحه ، فأصبح مثلي بعد أن فارقتني روحي ..
تسقط عني ملابسي طبقة طبقة ، ويسرع هو إلى قلب الصحراء البيضاء كالثلج ، أتوب عن ذنوبي ، غابات المشروم الجيري العملاق تحيط بنا من كل مكان ..
أعثر عليه في وسطها ، علاقتي بنعناع إيكا منذ سنين لا أعرف عددها ، كانت تشتريه لي جدتي من حلويات الباب الأخضر الذي يقع أسفل بيت العائلة في الحسين ، يختلف إيكا في أنه لسبب لا أدريه ليس متوفراً دائماً ، فلا ألتقي بعلبة النعناع الزيتية إلا نادراً عند بعض الأكشاك و المحلات الصغيرة ، أبحث عنه و يبحث عني ، ومازلت أبتهج عندما أعثر عليه تماماً كما كنت أبتهج عندما تفاجئني جدتي به .. بربك من أوصلك يا نعناع إلى صحراء الفرافرة البيضاء ؟؟
لا طريق ، لا ماض ، لا اتجاهات ، صحراء بيضاء وحصى أحمر أملس في كل مكان وحسب ، جلدي العاري يغدو أكثر رهافة ، يلين في البداية ، ثم يشف بالتدريج ، أرى عروقي أ أتتبع تفرعاتها الدقيقة ، أنشغل عن غابات المشروم بخمائل شعيراتي الدموية ، أتتبعها .. أراها تتجمع وتكبر أمامي بالتدريج ، تختزل في عدد قليل من الأوردة ، أختلج ، أصل إلى عرشها في قلبي ، أتلمس بقايا الدفء الذي كانت تبعثه في ّ ، بلا وعي أنزل من السيارة و أخطو كالمجذوب الذي أوشك أن يلمس بيديه أستار النور ، في حضن مشرومة جيرية أخط اسمها , و أودع في قبضة من الحصى المنمنم روحي و أهبها لها، أصرخ باسمها ، أسكن ، أنكمش ، تتضاءل أطرافي ، وحده عرشها من يتضخم ، أعود إلى رحمها من جديد ، تتحسسني بحنو و أنا أسبح فيها ، و تبتسم بشوق لركلاتي الصغيرة ، تستوي الملكة على عرشها .. لا تتركيني أبداً يا أمي !


Saturday, May 28, 2005

إنتظار



إهداء
إلى د/ محمد إسماعيل و د/عاطف تادرس و د/ منى محروس ، وكل من وهبني السهاد قبل امتحاناته


أغمض عيني .. أفتحهما ..
المروحة المسرعة لا تكف عن ذبح الهواء فوق رأسي بقسوة لا مثيل لها ، و أنا مسجاً على السرير ووجهي إلى طلاء السقف المشقق أنتظر هبوط مروحة السقف /المقصلة إلى عنقي ، الأمر لن يكون مؤلماً ولن يكون بهذه البشاعة ، كل ما سيحدث أن العمود المعدني الذي يثبت المروحة المتسخة إلى السقف سيأخذ في النمو و الاستطالة كأي كائن آخر ، حتى تصل المروحة إلى عنقي وتجتزه تماماً بضربة واحدة .. ترى هل سأتألم أكثر لأن (ريّش) المروحة الثلاثة مدججة بالأتربة و الأوساخ ؟
أغمض عيني قليلاً .. الأمر سيتم كالآتي : سأشعر مثلاً ببعض الألم ، ليس ألماً من النوع القاتل ، يقولون أن الخروف لا يشعر بالألم وقت الذبح ، و أنا أميل الآن إلى تصديق ذلك ، لماذا ينتفض الخروف إذن بعد ذبحه ؟ لأنه أحمق متشبث بالحياة - بلا سبب - ، لأنه يريد أن يستمر إلى الأبد في التهام البرسيم ومناطحة باقي الذكور ليستحوز هو - هو وحده - على تلك النعجة ذات الفراء الناعم و العينين الكحيلتين كعيني إنسانة ! أما أنا فلن أكون بحمق الخروف و أنتفض عندما تأتي إلي هذه الفرصة الذهبية (للانتقال) ..
ربما سأشعر أيضاً حينها - قبل أن أغيب عن الوعي - بدمي المتقد وهو يسيل في كل مكان ، ربما ساعدت أكوام الأتربة على المروحة في أن تهدئ النزيف قليلا ، هذا احتمال قائم ، ولذلك يجب أن أتذكر أن أنظف المروحة جيدا لتكون جاهزة للاستخدام دائماً ..
لا بد أن المروحة الآن ستكون سرعتها قد بلغت حداً أسطورياً ، كأنما تريد أن تبعد عنها أي قطرة دم أو أي اتهام بالقتل قد يوجه إليها ، ربما سأشعر حينها ببعض الانتعاش من الهواء البارد الذي يلفح وجهي و يحمل رائحة دمي ..
أخبركم بسر صغير ؟ أعشق هذه المروحة بجنون على الرغم من كل شئ ..!
و الآن أغمض عيني من جديد ، وحين أفتحهما تكون المروحة قد عادت إلى مكانها وتجمعت كل قطرة دم من التى تشبعت بها الغرفة وعادت إلى شراييني و أوردتي التي التحمت من جديد بدورها ..
سرعة المروحة الآن هادئة تماماً ، تمارس القتل اللطيف مع جزيئات الهواء المتناثرة (أتراه قتل الرحمة؟) ، يمكنني أن أحصي عدد دوراتها دون أن أخطئ في العد ، 24 ..57 ..132 .. أكثر من ذلك ؟ لا أظن .. ليس لي بأي حال من الأحوال أكثر من 132 صديق هم من كنت سأدعوهم إلى حفل خطبتي الذي حلمت به طويلاً ، سيكون فستانها محتشماً ، وردياً محتشماً ، و سأنيب أمي عني في تقليدها الشبكة و لثمها بين عينيها ، وسيكون الرجال في مكان و النساء في مكان آخر منعزل ، 132 .. ترى كم منهم سيحضر جنازتي ؟ ومن منهم سيتطوع بالانهيار عند قبري إذا ما انزاح الكفن لسبب أو لآخر عن رأسي المفصول ؟ و ترى هل سيكون الرجال منعزلون عن النساء في (حفل) عزائي ؟
1056 .. 1341 .. 1767 ..
لن يبلغ أبداً عدد من أعرفهم أو أتعامل معهم هذا الحد أبداً ، ربما لو نشر الخبر في إحدى صفحات الحوادث مثلاً لوجدت الآلاف يمصمصون شفاههم رأفة بشبابي المهدر بين أنياب المروحة ‍‍‍‍‍‍!
هل سيتطوع أحدهم بنشر نعي لي في أحد الجرائد ؟ ليس هذا تقليداً شائعاً في عائلتنا ، ولكنه أيضاً ليس من الشائع عندنا أن تجتز مروحة السقف رؤوس شباب العائلة ، إذن فربما تطوع أحدهم بنشر النعي ، بل وربما أرفقوا معها صورتي ببذلتي الرمادية الوحيدة التي كنت قد أعددتها خصيصاً لحفل (تخرجي) ، ربما قد كنت محقاً عندما أخذت هذه الصورة قبل حفل التخرج ، و ربما أصبت أيضاً في عندما انتقيت ربطة العنق السوداء تلك لأجعلها أنشوطة في عنقي رغم تشاؤم الجميع منها ..
أسرتي ، أبي ، (أمي) ، أخي ، أغمض عيني و لا أخاول أن أتخيلهم يروني أبداً في هذا الموقف ..
......... 754 عدد طلاب دفعتي ..
ستعلق ورقة طبعت في مكتب كمبيوتر فلاور بجوار لوحة النتيجة تماماً :
توفي إلى رحمة الله تعالى
..............
ربما سيأخذهم الفضول لمعرفة نتيجتي التي لم يسعفني الوقت لمعرفتها ، ترى من سيبك علي منهم ؟ هل ستبكي علي تلك الفتاة التي تجلس دائماً في الصف الثالث إلى اليسار وتبتسم باستمرارلتظهر غمازتيها الغائرتين ؟ هل تعرفني أصلاً ؟؟
وهل ستترحم علي حنان وهي تكتب نعيي في محل فلاور و تذكر أنني كنت أطبع عندها كل أبحاثي ؟
بالله هل سيعبأ بي أحد أو يذكرني مخلوق ؟؟؟؟
أغمض عيني .. أفتحهما ..
كان هناك مسلسل كرتوني شاهدت بعض حلقات منه أيام طفولتي الأولى ، كان اسمه (مغامرات مورتون و نيلز) أو شئ كهذا ، نيلز لسبب ما قد أصبح قزماً بطول عقلة الإصبع ،و يجوب العالم على ظهر صديقه الحميم مورتون وهو أوزة بيضاء كبيرة ، وهما يحلقان معاً وسط سرب من البط البري الذي يرتحل من مكان إلى مكان ، أما ما أذكره عن آخر حلقة فهو قليل و لا يزيد عن ان نيلز قد عاد إلى بيته أخيراً على متن مورتون ، يدخل نيلز القزم إلى غرفته بينما ينتظره مورتون خارج البيت ، ويعود نيلز إلى حجمه الطبيعي بعد أن تحل التعويذة أو اللعنة التي بسببها تقلص حجمه ، وكان شرط حل اللعنة (كما عرفنا في النهاية) هو أن تذبح أوزة بيضاء كبيرة .............................................
أغمض عيني .. أفتحهما والمروحة المنتظرة لا تكف عن الأزيز ..
ستدخل عليك الصيدلية وهي تقدم قدماً و تأخر الثانية ، يجب عليك أن تكون لماحاً وتهم ما تريده بالضبط ، أسئلتك يجب أن تكون محددة و صريحة : ما لون الإفرازات ، ما شكلها بالضبط ، هل تشبه قطع الجبن المفتتة أم لا ؟ هل رائحتها كرائحة السمك ؟ الدواء ؟ صبغة الجنتيانا البنفسجية علاج فعال ، و إياك ان تستعملها ! لماذا ؟ صوته القاطع يهدر : "هتصبغ ال Underwear بتاعها و بتاع جوزها كمان" ..
لم ينجح أحد في هذه المادة العام الماضي إلا بدرجات الرأفة ..
أغمض عيني ، أنجح في أن أبقيهما مغمضتان طويلاً هذه المرة ، المروحة تلفظ أنفاسها وتتوقف الآن تماماً ..
1 .. 1 .. 1 .. 1 .. 1
هي/هي/هي/هي/هي
اتراها ستعيش بعدي ؟ أتراها ستتذكر عيني عندما ترى عيني الخروف العسليتين تنظران إلى الأبدية عشية عيد الأضحى ؟ أتراها ستتذكرني وهي تنظر إلى الرأس المفصول ؟ أستهش الذباب عن وجهه / وجهي المربد ؟ أستشارك العائلة في وليمة التهامي ؟ ستتذكرني ، أنا أثق في ذلك كما أثق في مروحتي التي ستنهي كل شئ ، ستظل تذكرني و ستظل تقرأ لي سورة يس مطلع كل نهار ، وستظل تحتضن دميتها ذات الشعر الأسود الغزير وتناجيها و تبكي ، أ ستروى لها عندما تكبر الدمية / ابنتنا أن أباها كان يحبها كثيراً ؟؟
كانت حين تبكي لا تجد لها مثواً إلا حضني الدافئ لتذوي فيه كشمعة تسيل ، أتشمم أريج شعرها بشفتي المشققتين ، تشتعل ، تخبو ، وتتشكل الشمعة من جديد في قالبي أنا ..
أستجد لها قالباً يشكلها من جديد بعدي ؟؟؟
ترى هل من الأوفق أن أمد يدي الآن - قبل أن يصل نصل المروحة المتسخ إلى عنقي - و أفتح درج مكتبي المجاور ؟ ترى هل أجعل دمي - ذلك الذي يترنم باسمها- يصل إلى أوراق هداياها الملونة النائمة ببراءة في حضن درج مكتبي العجوز ؟
أستقدر حقاً يا دمي أن تصل إلى إهداءاتها ، أستجرؤ على طمس ما كتبته لي بخطها الطفولي :(إلى الذي لم يفشل أبداً في استفزازي) ..
أتراك يا أوراق هداياها عطشى إلى دمي ؟ و أتراك يا دمي ستحيي زهورها التي اختارتها لي (لي وحدي) على الأوراق الملونة بلونها ، و أتراني سأتمكن من أن أشم العبير ، عبير زهورنا من (مرقدي) هناك وسط الرموس ؟؟
أحاول أن أغمض عيني أكبر وقت ممكن ، تفتحان على الرغم مني ، أستصدقونني إذا أقسمت لكم أن القائم مازال ينمو ، و أن وشيش المروحة صار هديراً ، و أن رائحة التراب تزكم أنفي الآن أكثر و أكثر ؟؟
إذن لأمد يدي ولأفتح درج المكتب ....

Wednesday, April 20, 2005

حالة شجن


أصحو من النوم في نفس الموعد كل يوم دون أن يوقظني أحد ، أبعد الوسادة برفق عن حضني الدافئ حتى لا أقلقها ، أمد يدي إلى تلفوني المحمول العتيق ، أشاهد مكالمتها (المفقودة) الصباحية ، أبتسم ، أرسل لها قبلة في الهواء ، أنتعش وأوقن أنها ستشعر برضابي ، تذوب ابتسامتي وأنا أدير رأسي لمكتبي الملا صق للسرير أأخذ نفساً عميقاً ، وأبدأ في الدعاء : اللهم ارحم (مأمون بن صابر فنجر) وأدخله الفردوس الأعلى مع النبيين و الشهداء و الصديقين وحسن أولئك رفيقا ..
اللهم بارك في عقبه سمية و سلمى و سلسبيل ، اللهم احفظهن بحفظك ، وألهمهن الرشد و الثبات على الدين ، وسبل السلام إلى كل خير ..
لم أحاول أبداً أن أقلب الكتيب لأرى عنوانه ، كل ما أعرفه هو أنه موجود على مكتبي منذ الأزل ، واالذين شاهدوا مكتبي يعرفون منطقية أن يوجد أي شئ وكل شئ على مكتبي دون تغيير ، بداية من أكداس قصاصات الجرائد القديمة ، وانتهاءاً بعدد من أقماع البيتادين المهبلية المصنعة يدوياً ، احتفظت بها - بلا سبب - بدلاً من التخلص منها بعد عرضها على المعيد في معمل الصيدلانيات ..
ولكنه في ذلك اليوم بالذات تخلل روحي بعنف لسبب لا أدريه ، إذا كانت الروح القدس هي من حلت على التلاميذ و بوحيها كتبوا رسائلهم ، فإن روحه هي من انتعلتني اليوم وحركت يدي لأكتب سيرته التي لم يكتبها أحد ، كان اليوم يوم (مأمون بن صابر فنجر) .. ربما كان يوم ميلاده أو ذكرى وفاته ،لا يهم ..كان يومه في داخلي وحسب ..
شعرت بيده تهز كتفي برفق ، وتذكرني به ، بلقائنا الوحيد منذ خمس سنوات ، كان هذا أول تيرم لي في كلية الصيدلة ، وكنت لا أزال مزهواً بلقب (دكتور) الذي ينعتني به الجميع دون جريرة اقترفتها ، وحدك أنت يا مأمون ناديتني باسمي مجرداً بلا ألقاب يومها ، كنت أزور أحد أصدقائي في كلية الطب ، كان ترمه الأول أيضاً ، وكان هو الآخر منتشياً بعوالم الأسرار التي فتحت له ، أخذني من يدي ، لم يستغرق الأمر كثيراً ، لا أذكر حتى إن كانت هناك لافتة على ذلك المبنى أم لا ، السلالم ليست بهذه الكثرة ، مجرد درجات قليلة ، ثم تلفحك برودة مفاجئة ، لم يكن الأمر مخيفاً أو مرعباً كما يصورونه في قصص الرعب الرخيصة ، كان الإحساس بالصدمة هو المسيطر علي ، تماماً كما لو أنك رأيت رجلاً يجلس القرفصاء عارياً ويتبرز في محراب مسجد أو هيكل كنيسة ، أو كما لو أنك رأيت كلبين يمارسان الهوى على فراشك الذي تنام عليه .. هناك كنت أنت يا مأمون ، صدقني لم أستطع لأول وهلة أن أتخيل أنك كنت إنساناً حقيقياً في يوم من الأيام ، أنك لست إلا دمية بلاستيكية رديئة الصنع ، لست إلا جوالاً بنياً محشواً بتراب وقطن أصفر رخيص ، لم أتخيل أن هذا الجسد المصبوغ باللون البني القاتم ، وتلك الجمجمة التي أزالوا قحفها ليشربوا فيه الخمر كما فعلت جدتهم القرشية ، لم أتخيل أن هذا الصدر المشقوق أمامي ككبوت مفتوح لسيارة قديمة متعطلة ، لم أتخيل أبداً - وصدقني يا مأمون - أن هذا الحضن البارد كان قادراً أن يحتوي ثلاث بنات صغيرات تبدأ أسماؤهن بحرف واحد ، ولكنك يا مأمون استطعت أن تثبت لي ، بربك كيف جعلتني أنظر إلى عينيك ؟ كانتا شبه مسبلتين ، أنفك ذابل قليلاً ، وحده شاربك هو من أثبت لي أنك لست دمية يمارسون عليها ماسوشيتهم و ألعابهم السادية ، شاربك هو كل ماتبقى لي من هيئتك الآن ، الشعيرات الثائرة الخشنة ، اللحية التي لم تحلقها من يومين ، أعترف أنك استطعت أن تقنعني يا مأمون ، بعينيك نصف المسبلتين سحرت عيني ، وأسمعتني صوت بناتك الثلاثة وهن يتواثبن لتقبيلك ، و أريتني نظرة الدهشة في عيون سلسبيل الصغيرة من شعيرات لحيتك النابتة الخشنة ، أقنعتني بجدارة يا مأمون عندما جعلتني أشعر بليونة يدها في يدي ، عندما أشعرتني بوخز لحيتك ليد ابنتك المطبقة على يدي ، أقنعتني عندما ابتسمت لي من عالمك البعيد ابتسامة الرجاء تلك وكأنك تضع سرك الصغير هذا أمانة في عنقي ، كانك توصيني على بناتك الثلاثة ، كأنك ترجوني أن أقبلهن بشفتيك نيابة عنك ، أن أضمهن إلى صدري بدلاً من صدرك المشقوق ، وعيت رجاءك تماماً يا مأمون ، ووعدتك أن أوفيه لك ، وعندها فقط ذوت ابتسامتك ، وارتدى وجهك قناع الموت البني من جديد.. لقد زفرت يا مأمون ، أقسم أنك فعلت ، زفرت و أنت بلا رئة ولا صدر ، أريتني صورتك و زفرت بحسرة على ما صيروك إليه ، كنت متعلماً تلبس البذلة و الكرافات وتتعطر في الصباح وتقبل البنات النيام قبل أن تذهب إلى عملك ، لكنك كنت تجد راحتك في هذا الزي بالذات ، ترتدي الجلباب الناصع و العباءة البنية الموشاة بالقصب ، و تنتعل البلغة البيضاء التي كانت تريح قدميك دائماً ، لماذا لم يعد أحدٌ ينتعل البلغ الآن ؟ أول بلغة رأيتها في حياتي كانت في قدمي جدي ، كانت رمادية اللون وكانت مصنوعة من جلد لين غريب ، أذكر تماماً ملمسها الناعم حتى هذه اللحظة ، و أذكر كيف كنا نحن - الأحفاد - نتسابق لننتعلها ونمسك بعصاه المعقوفة .. و أذكر أيضاً أن آخر مرة رأيت فيها بلغة كانت عندما ركلتها جدتي بعنف لتختفي تحت سريرهما النحاسي و نحن نحمل جدي برفق إلى خشبة المُغسل .. رحلت عني يا مأمون قبل أن تخبرني من أنت ، وما الذي جاء بك إلى هنا ، ولماذا أنا بالذات من تستأمنه على سرك من وسط كل من حولك ، تركتني بآلاف آلاف الأسئلة وبلا إجابة واحدة ، لم تشك لي حتى آلام المباضع التي ينهشون بها جسدك بشبق مجنون صباح مساء ، اختفيت من بين يدي يا مأمون ، ولم تترك لي سوى كتيبك المقلوب هذا على مكتبي وسط عدد من نيجاتيف الأفلام القديمة المحروقة ، وعدد من الأقماع المهبلية ..
***
أصحو من النوم ، في نفس الموعد دون أن يوقظني أحد ، لا أجد الوسادة في حضني البارد ، أحاول أن أمد يدي إلى تلفوني المحمول ، لا أستطيع ، و لا أشعر بوجوده أصلاً ، تحرق رائحة الفورمالين انفي وبقايا رئتي ، ومع ذلك أجاهد لأضم شفتي ، وأرسل لها قبلتها الأخيرة في الهواء ، و أنا أضرع إلى الله ألا تراني أبداً و أنا مُمَثل بي على طاولة التشريح الباردة ..
tahaweem Posted by Hello