Wednesday, April 20, 2005

حالة شجن


أصحو من النوم في نفس الموعد كل يوم دون أن يوقظني أحد ، أبعد الوسادة برفق عن حضني الدافئ حتى لا أقلقها ، أمد يدي إلى تلفوني المحمول العتيق ، أشاهد مكالمتها (المفقودة) الصباحية ، أبتسم ، أرسل لها قبلة في الهواء ، أنتعش وأوقن أنها ستشعر برضابي ، تذوب ابتسامتي وأنا أدير رأسي لمكتبي الملا صق للسرير أأخذ نفساً عميقاً ، وأبدأ في الدعاء : اللهم ارحم (مأمون بن صابر فنجر) وأدخله الفردوس الأعلى مع النبيين و الشهداء و الصديقين وحسن أولئك رفيقا ..
اللهم بارك في عقبه سمية و سلمى و سلسبيل ، اللهم احفظهن بحفظك ، وألهمهن الرشد و الثبات على الدين ، وسبل السلام إلى كل خير ..
لم أحاول أبداً أن أقلب الكتيب لأرى عنوانه ، كل ما أعرفه هو أنه موجود على مكتبي منذ الأزل ، واالذين شاهدوا مكتبي يعرفون منطقية أن يوجد أي شئ وكل شئ على مكتبي دون تغيير ، بداية من أكداس قصاصات الجرائد القديمة ، وانتهاءاً بعدد من أقماع البيتادين المهبلية المصنعة يدوياً ، احتفظت بها - بلا سبب - بدلاً من التخلص منها بعد عرضها على المعيد في معمل الصيدلانيات ..
ولكنه في ذلك اليوم بالذات تخلل روحي بعنف لسبب لا أدريه ، إذا كانت الروح القدس هي من حلت على التلاميذ و بوحيها كتبوا رسائلهم ، فإن روحه هي من انتعلتني اليوم وحركت يدي لأكتب سيرته التي لم يكتبها أحد ، كان اليوم يوم (مأمون بن صابر فنجر) .. ربما كان يوم ميلاده أو ذكرى وفاته ،لا يهم ..كان يومه في داخلي وحسب ..
شعرت بيده تهز كتفي برفق ، وتذكرني به ، بلقائنا الوحيد منذ خمس سنوات ، كان هذا أول تيرم لي في كلية الصيدلة ، وكنت لا أزال مزهواً بلقب (دكتور) الذي ينعتني به الجميع دون جريرة اقترفتها ، وحدك أنت يا مأمون ناديتني باسمي مجرداً بلا ألقاب يومها ، كنت أزور أحد أصدقائي في كلية الطب ، كان ترمه الأول أيضاً ، وكان هو الآخر منتشياً بعوالم الأسرار التي فتحت له ، أخذني من يدي ، لم يستغرق الأمر كثيراً ، لا أذكر حتى إن كانت هناك لافتة على ذلك المبنى أم لا ، السلالم ليست بهذه الكثرة ، مجرد درجات قليلة ، ثم تلفحك برودة مفاجئة ، لم يكن الأمر مخيفاً أو مرعباً كما يصورونه في قصص الرعب الرخيصة ، كان الإحساس بالصدمة هو المسيطر علي ، تماماً كما لو أنك رأيت رجلاً يجلس القرفصاء عارياً ويتبرز في محراب مسجد أو هيكل كنيسة ، أو كما لو أنك رأيت كلبين يمارسان الهوى على فراشك الذي تنام عليه .. هناك كنت أنت يا مأمون ، صدقني لم أستطع لأول وهلة أن أتخيل أنك كنت إنساناً حقيقياً في يوم من الأيام ، أنك لست إلا دمية بلاستيكية رديئة الصنع ، لست إلا جوالاً بنياً محشواً بتراب وقطن أصفر رخيص ، لم أتخيل أن هذا الجسد المصبوغ باللون البني القاتم ، وتلك الجمجمة التي أزالوا قحفها ليشربوا فيه الخمر كما فعلت جدتهم القرشية ، لم أتخيل أن هذا الصدر المشقوق أمامي ككبوت مفتوح لسيارة قديمة متعطلة ، لم أتخيل أبداً - وصدقني يا مأمون - أن هذا الحضن البارد كان قادراً أن يحتوي ثلاث بنات صغيرات تبدأ أسماؤهن بحرف واحد ، ولكنك يا مأمون استطعت أن تثبت لي ، بربك كيف جعلتني أنظر إلى عينيك ؟ كانتا شبه مسبلتين ، أنفك ذابل قليلاً ، وحده شاربك هو من أثبت لي أنك لست دمية يمارسون عليها ماسوشيتهم و ألعابهم السادية ، شاربك هو كل ماتبقى لي من هيئتك الآن ، الشعيرات الثائرة الخشنة ، اللحية التي لم تحلقها من يومين ، أعترف أنك استطعت أن تقنعني يا مأمون ، بعينيك نصف المسبلتين سحرت عيني ، وأسمعتني صوت بناتك الثلاثة وهن يتواثبن لتقبيلك ، و أريتني نظرة الدهشة في عيون سلسبيل الصغيرة من شعيرات لحيتك النابتة الخشنة ، أقنعتني بجدارة يا مأمون عندما جعلتني أشعر بليونة يدها في يدي ، عندما أشعرتني بوخز لحيتك ليد ابنتك المطبقة على يدي ، أقنعتني عندما ابتسمت لي من عالمك البعيد ابتسامة الرجاء تلك وكأنك تضع سرك الصغير هذا أمانة في عنقي ، كانك توصيني على بناتك الثلاثة ، كأنك ترجوني أن أقبلهن بشفتيك نيابة عنك ، أن أضمهن إلى صدري بدلاً من صدرك المشقوق ، وعيت رجاءك تماماً يا مأمون ، ووعدتك أن أوفيه لك ، وعندها فقط ذوت ابتسامتك ، وارتدى وجهك قناع الموت البني من جديد.. لقد زفرت يا مأمون ، أقسم أنك فعلت ، زفرت و أنت بلا رئة ولا صدر ، أريتني صورتك و زفرت بحسرة على ما صيروك إليه ، كنت متعلماً تلبس البذلة و الكرافات وتتعطر في الصباح وتقبل البنات النيام قبل أن تذهب إلى عملك ، لكنك كنت تجد راحتك في هذا الزي بالذات ، ترتدي الجلباب الناصع و العباءة البنية الموشاة بالقصب ، و تنتعل البلغة البيضاء التي كانت تريح قدميك دائماً ، لماذا لم يعد أحدٌ ينتعل البلغ الآن ؟ أول بلغة رأيتها في حياتي كانت في قدمي جدي ، كانت رمادية اللون وكانت مصنوعة من جلد لين غريب ، أذكر تماماً ملمسها الناعم حتى هذه اللحظة ، و أذكر كيف كنا نحن - الأحفاد - نتسابق لننتعلها ونمسك بعصاه المعقوفة .. و أذكر أيضاً أن آخر مرة رأيت فيها بلغة كانت عندما ركلتها جدتي بعنف لتختفي تحت سريرهما النحاسي و نحن نحمل جدي برفق إلى خشبة المُغسل .. رحلت عني يا مأمون قبل أن تخبرني من أنت ، وما الذي جاء بك إلى هنا ، ولماذا أنا بالذات من تستأمنه على سرك من وسط كل من حولك ، تركتني بآلاف آلاف الأسئلة وبلا إجابة واحدة ، لم تشك لي حتى آلام المباضع التي ينهشون بها جسدك بشبق مجنون صباح مساء ، اختفيت من بين يدي يا مأمون ، ولم تترك لي سوى كتيبك المقلوب هذا على مكتبي وسط عدد من نيجاتيف الأفلام القديمة المحروقة ، وعدد من الأقماع المهبلية ..
***
أصحو من النوم ، في نفس الموعد دون أن يوقظني أحد ، لا أجد الوسادة في حضني البارد ، أحاول أن أمد يدي إلى تلفوني المحمول ، لا أستطيع ، و لا أشعر بوجوده أصلاً ، تحرق رائحة الفورمالين انفي وبقايا رئتي ، ومع ذلك أجاهد لأضم شفتي ، وأرسل لها قبلتها الأخيرة في الهواء ، و أنا أضرع إلى الله ألا تراني أبداً و أنا مُمَثل بي على طاولة التشريح الباردة ..
tahaweem Posted by Hello