Saturday, October 01, 2005

الفرافرة .. حين فررت من نفسي إلى نفسي



كان مخاضها ومخاضي متعسرين ، ربما كان وضعي بداخلها غير طبيعي ، أو ربما أنني قد تضخمت في رحمها أكثر من اللازم ، حتى تعذر علي أن أمر طاقة النور التي أراها تقترب حيناً وتبتعد أحياناً ، و أجاهد مع ذلك لأن أصل إليها ..
حتى هي ، أمي ، كانت بدافع الحب أو الكره تحاول أن تلفظني عنها ، أسئمت مكوثي داخلها أم اشتاقت لرؤياي ؟
يتقلص الرحم ، يضمني كقبر فتختلف ضلوعي ، يشفق عليّ .. ينبسط ، أشهق محاولاً أن أتنفس ، ينقبض من جديد حتى إذا ماكدت أهلك تركني الرحم لأعيش إلىحين ..
أعجبتك لعبة الطلق يا أمي ؟ إيه يا أماه .. مادمت تلعنيني الآن هكذا فلم لم تتناولي الأقراص وتقتلي نطفتي فيكي من البداية ؟
أعرف أن الطبيب يتعجلك لتلفظيني عنك ، و أعرف أنه سيرجح حياتك على حياتي رغم أني سر حياتك ، و أرى من مكمني فيك أداته تلك ، مثل الجفت الجراحي الذي يسحب به الجنين أثناء الولادات المتعسرة ، كمقص عملاق ، ولكنه بمسمارين صغيرين ، سيدعي أنه يدغدغني و يتسلل بملقطه الصدئ حتى يكون رأسي بين طرفيه ، ولأن ذراع القوة طويل فلن يكلفه الأمر غير ضغطة بسيطة ليتصافح المسماران في رأسي ..
حينها ستزفرين يا أمي ، وسيبتسم لك الطبيب بتشف وهو يسحب بملقطه الجيفة التي صيرني إليها ..
إيه أيها الطبيب ، راسي مهشم ومخي يسيل من ثقبي مهمازيك ، ولكني رأيت نظرتك على أمي ووعيتها جيداً ..
تقهقه .. لا تعبا بدمي و قيحي والعرق وسوائل الميلاد وتعزف بقيثارتك لتغوي أمي ؟
تنهضها وتتأبط ذراعها الذي لم يمسه أحد منذ أن استودعتها نطفتي لأولد منها ومني و أفتديها من خطيئتها و خطيئتي ..
تخطوان على أحشائي ، تحفرين أخدوداً بكعب نعلك في موضعك مني ، القلب تماماً ، أهنت عليك لتلك الدرجة حتى لا تستري عريي وتؤثرين أن يسترني طبيبك هذا بين أنيابه و أحشائه ؟
يشخب صدرك برحيق الحياة و أنا ظمآن منذ اللقاح الأول و لا ترويني ؟
لماذا مازلت أشعر و أنا ملقاً وحدي بالرحم يمارس الطلق ويهصر جوانبي .. إلى أي دنيا تريدي أن تلفظيني يا دنيتي ؟
أن تكون يتيم الأم أمر قد تعتاد عليه مع الوقت ممنياً نفسك بلقياها عند الله ، أما أن تكون يتيم الأم و أمك أمام عينيك ، أن ترى إيزيسك تئد حوريس و وتشارك ست ابتهاجه بتقطيعك إرباً ، فهو دولاب المسامير المستعر الذي يطبق عليّ كقبر كافر ..
حسناً يا أمي و حبيبتي و ابنتي ..
سأبتعد إلى أقصى نقطة يمكنني الارتحال إليها ، إلى أكثر نقطة لا أعرف عنها شيئاً ، لا أعرف عنها إلا اسمها و إلا أنها بعيدة عنك ..
الفرافرة ..
في موقف الترجمان عندما سألني موظف التذاكر لماذا الفرافرة بالذات؟كنت سألعن أباه و عشيرته كلها لفضوله ، ألا يرى حقاً أخدودها في قلبي ؟
- الفرافرة ده اللي اتصور فيها شمس الزناتي ..
وقهقه وحده ..
لم أجد ما يقلني إلى الفرافرة من الترجمان ، الأوتوبيس القادم موعده بعد غد ، و الأغبياء لا يعرفون أنني لم أعد أقوى أن أمكث في مملكة ست هذه أكثر من ذلك ، أريد أن أطوف الأقاليم و أجمع أشلائي ، مهمتك يا إيزيس التي تنصلت منها ..
القاهرة قاتلتي الليلة ..
إذن فإلى أي مكان سيرحل إليه الأوتوبيس الآن ..
واحة الخارجة ..
على بعد 700 كم من القاهرة ، وتقريباً على خط واحد مع الأقصر ، ولا شئ آخر تراه هناك، ننتقل بين قراها التي تحمل أسماء عواصم ومدن عربية : صنعاء .. جدة .. عمان ونحن مكدسون في صندوق سيارة كعربات الشرطة ، ليست بقرية و لا مدينة و لا واحة ، مجرد طريق طويل مرصوف بلا بداية و لانهاية ، مازلت يا ست تلاحقني بترانيمك وقيانك ، ضعف سلطانك ولكنك ما زلت تلاحقني حاملاً فأسك الحاد لتمزق أشلاء أشلائي ..
كان متاعي ثلاثة كتب لها معزتها في قلبي ، روايتان لكويلو ورواية لماركيز ، لم أقرأ حرفاً في أي منهم ، واكتفيت بان أضم كتاب ماركيز إلى صدري و أتشمم عطر شعر أمي بين صفحاته ، تمطين شفتيك عتاباً و أدير وجهي عنك ولا أزحزحك عن صدري ..
أمي .. لم تتوقف روحي عن اللهج باسمك لحظة واحدة ..
من لاواحة الخارجة إلا لاواحة الداخلة ، رحلة قصيرة هذه المرّة ، 300 كم وحسب ، أجرب أحدكم أن يقضي 3 ليال لا ينام فيها إلا مستنداً على ظهر الكرسي الذي يليه في حافلة تهتز بشبق مستمر ؟
أجرب أحدكم أن يحيا كالهيبز ، يرتحل وهو لا يعرف ماذا سيرى في رحلته أو أين سينام أو حتى كيف سيرجع ثانية ، أن يسافر كأنما خلق ليرتحل ، كسرب أوز بري أو سالمون ، كمجذوب يهيم إلى نور الله ، وكنت أنا مجذوباً إلى لقياها هناك ..
أقف في وسط الدائرة ، في النواة تماماً مدارات الإلكترونات تتعامد تتوازى تتشابك تتشارك في أن تصفعني وتهرب ، لن أعرف أبداً عدد من صفعني ، هم كسلاسل الشهاب لا تعرف لها بداية و لا نهاية ، أيا نيوتروني المتعادل ، أبهرك بريق سياط الإلكترونات السالبة وغفلت عن موجبك القادر وحده على بث الروح في أعطافك التي سئمت سجن التعادل ..
أمي .. أنا في الداخلة ، قطعت 1000 كم لأستطيع أن أهاتفك ، فاصفحي عني وهبي لي ملاذاً أراق فيه ورفرفي على مأواك بين ضلوعي ..
سحقاً لغيرة الطفل الحمقاء ، سحقاُ لعقله الذي سحق بين مطرقة الطبيب و سندانه ، أو تستطيع أمك يا أبله أن تلقم ثديها لغير ابن رحمها ، أن تروي شفتاها المكتنزتان شفاهاً عطشى غير شفتي .. وي أتقدر شهرزادي أن يهدهدها ويهمس لها بالحكايات غيري ؟
كان علي أن أنتظر في الداخلة بضع ساعات إلى أن يحين موعد حافلة الفرافرة ..
وبضع مئات أخرى من الكيلومترات ..
وعندما أعلن السائق بلا اكتراث أنا قد وصلنا إلى الفرافرة لم أجد حتى يافطة واحدة تدل على ذلك ، ترجلت كابن فطومة حين بلغ نهاية رحلته ، إذن فهذه هي الفرافرة ، طريق نصف ممهد تتناثر عن يمينه ويساره بعض البيوت و المحال البائسة ، ولا شئ آخر ..
مركز للشباب بلا شباب ، نزل بلا نجوم ، ومتحف خاص لفنان انعزل عن الحياة في مرسمه ..
وفي مركز الشباب عرض علي أحدهم أن يأخذني إلى الصحراء في سيارته القديمة رباعية الدفع ..
تجأر السيارة أولاً قبل أن تهتز ، ما إن تخطو حتى يختفي الناس على الفور ، كيلومترات عديدة لا ترى فيها أثراً لسيارة مارّة ، الآن يهدئ من سرعته ، ينحرف إلى اليمين ، يترك الطريق الأسفلتي ويفض بكارة الصحراء ، بعد احتضار قصير يغدو هاتفي المحمول بلا فائدة بعد أن فارقته مؤقتاً روحه ، فأصبح مثلي بعد أن فارقتني روحي ..
تسقط عني ملابسي طبقة طبقة ، ويسرع هو إلى قلب الصحراء البيضاء كالثلج ، أتوب عن ذنوبي ، غابات المشروم الجيري العملاق تحيط بنا من كل مكان ..
أعثر عليه في وسطها ، علاقتي بنعناع إيكا منذ سنين لا أعرف عددها ، كانت تشتريه لي جدتي من حلويات الباب الأخضر الذي يقع أسفل بيت العائلة في الحسين ، يختلف إيكا في أنه لسبب لا أدريه ليس متوفراً دائماً ، فلا ألتقي بعلبة النعناع الزيتية إلا نادراً عند بعض الأكشاك و المحلات الصغيرة ، أبحث عنه و يبحث عني ، ومازلت أبتهج عندما أعثر عليه تماماً كما كنت أبتهج عندما تفاجئني جدتي به .. بربك من أوصلك يا نعناع إلى صحراء الفرافرة البيضاء ؟؟
لا طريق ، لا ماض ، لا اتجاهات ، صحراء بيضاء وحصى أحمر أملس في كل مكان وحسب ، جلدي العاري يغدو أكثر رهافة ، يلين في البداية ، ثم يشف بالتدريج ، أرى عروقي أ أتتبع تفرعاتها الدقيقة ، أنشغل عن غابات المشروم بخمائل شعيراتي الدموية ، أتتبعها .. أراها تتجمع وتكبر أمامي بالتدريج ، تختزل في عدد قليل من الأوردة ، أختلج ، أصل إلى عرشها في قلبي ، أتلمس بقايا الدفء الذي كانت تبعثه في ّ ، بلا وعي أنزل من السيارة و أخطو كالمجذوب الذي أوشك أن يلمس بيديه أستار النور ، في حضن مشرومة جيرية أخط اسمها , و أودع في قبضة من الحصى المنمنم روحي و أهبها لها، أصرخ باسمها ، أسكن ، أنكمش ، تتضاءل أطرافي ، وحده عرشها من يتضخم ، أعود إلى رحمها من جديد ، تتحسسني بحنو و أنا أسبح فيها ، و تبتسم بشوق لركلاتي الصغيرة ، تستوي الملكة على عرشها .. لا تتركيني أبداً يا أمي !